الخميس، 26 يناير 2012

***أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما***



حرَّكت الإرادة الأزلية العزيمة المحمدية للخروج في بعض أسفارها. فاستصحب الدّرَّة اليتيمة معه من قرارها، ووكل بخدمتها، ورفع قُبّتها حين أمسى وأصبَح عبدُه صفوان.
فنزل القوم منزلا لإصلاح عيشهم، وسكَّن الكرى حركات بطشهم، استولت على العبد سِنَة الكرى.
فأثارت المشيئةُ الأحديّة حركات عائشة الصّدّيقة الصّفيّة -رضي الله عنها- للخروج من مطارها إلى بعض أوطارها، ونزلت من قُبّتها لقضاء حاجتها، فحلّت يد القدر عُقْدَة عِقْدِها، وانتثرت قلادتُها من جِيدها، واشتغلت بنظم نثرها لتردّها إلى صدرها.
نادى القدرُ: يا جبريل. إنها فقدت من قلادتها جزْعا،فاجعل مكانها جَزَعًا!
فانتبه صفوان، وساق جمله ولا علم له بما حصل له، فلما وَصَل إلى المدينة ولم يرها، عاد يطلب أثرها، والقدَر يثير دفين الأسرار، ويقدح شرار إفك الأشرار.
فلما بلغ ذلك رضيع ثدي الوَحْي، وحاملَ سرّ الأزل، وحافِظَ ودائع الغيب، ورافع لواء الحمد، فَطِنَ لرمز عيون إفكهم، وتراءت له إشاراتُ شركهم، تألّم قلبه، وجرح بنصل الكآبة لبُّه، وانصدعت زجاجة سرّه، وانقسمت مجتمعاتُ أمره، وقال لها بلُطف شفقته قولا معنويا، ولوَّح لها برمز محبتّه تلويحا خفيًّا: انصرفي إلى بيت أبيك، فسيأتيني الخبرُ فيك.
- فانتثرت عبرَاتها، واستولت عليها زفراتها، وأظلم نهار فرَحِهَا، واسود ليلُ ترحها، وتصاعدت أنفاس وَجْدِها، وعُدِمَ الصبر من عندها، وقالت: عَلامَ أُهْجَرُ وما جَنَيْت، وأُبْعَدُ وما تعدَّيت؟ أمِنْ جهة شكوى الضرائر من دليل الحبيب الهاجر؟
- قيل لها: أيتها الصديقة، والسيدة على الحقيقة، البلاءُ بقدر الوَلاء، والنّصر ضمن الصّبر!
- فلما عرفت القصّة، وتبينت الغُصة، مُحِقَ بدْرُ صبرها بشياع أمرها، وهوتْ أنجم حواسّها، بتصاعد أنفاسها. وتناثرت عَبَرَاتُ عيونها لحُرْقَة نارها، وانحنى ألِفُ قامتها على لوح انكسارها.
- وطالت عليها مُدَّة هجر محبوبها، وعُدِمَت رضاع ثدي مطلوبها، قالت: إلهي بك يستنصر الذَّليل، وإلى جناب عزّك يلجأ المظلوم، ومَنْ غَيْرك ينفّس كرْبَ المكروب؟ ومَنْ سواك يجيب دعاء المضطرّ؟ أنت أخْبَرُ بطهارة عِصْمَتي، وأعلمُ منّي بمسألتي!
فاتخذت قبَّة يعقوبيّة، وجعلت الفرقة حالة يوسفية، وصارت ظلمة قبّتها سجن يوسف حُزنها!
مرّ بها من جانب الحبيب هبوب نسيم: "كيف تيكم؟"
فقالت: أنا ربيبةُ خدر الفَصاحة، وقرينةُ أفصح من نطق بالضَّاد، والتاءُ للمخاطب القريب، والكاف للغائب البعيد، أين تاء أنتِ من كاف ذاك؟أين هاء هذه من تاء "تيكم"؟ ميم الجمع لا توجب تخصيص أحد المذكورين، طالما كنت عينَ الهاجر، وسويداءَ قلب الغائب، وريحانة أُنْسِ المُعْرِض، ولكن للزمان أحوال تحول، وفصول تصول.
يا ربّ، همِّي قد أغرقني، وحرُّ حزني قد أحرقني، ونُحول حالي قد أنحلني، وتبلبلُ بالي قد بلبلني.
فضجّت الملائكة في الصفيح الأعلى، واختلفت تسابيحُ حظائر القدس، وانزعجت رهبان صوامع النور. قالت الأشباح النورانية والأرواح الروحانيّة: إلهنا! طاهرة فراش النبوّة قد تكدّر صفاء قلبها، ودُرَّة بحر الشرف قد تشظَّى جوهر لبّها، وريحانة مشمّ الرسالة قد ذَبُلَت بإفك الفاسقين، ورضيعة ثدي الوحي قد فُطِمَت بكذب المنافقين.
قيل لبريد المملكة، ومقدّم عساكر الملائكة: يا جبريل، خذ من لوح غيب الأزل سبع عشرة آية، براءة من العيب بألسنة الغيب، فإني تكلّمتُ بها في الأزل، وقديم القدر وجعلتُها طرازا لكمِّ عائشة إلى يوم القيامة.
فهبط بريد الأزل، على السّيِّد المفضَّل، بآيات السرور، في سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(النور:11) .
فلما سمعت الصّدّيقة رنات الآيات، ولاح لها إشارت البشارات، قالت: سبحان من يجبر الكسير، ويعزّ الحقير، وينصف المظلوم، ويصرف الغموم، والله ما كنت أظنّ أنّ ربي –تبارك وتعالى- ينزل فيّ قرآنا، ولا يذكرني لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما يوحى إليه، ولكن رجوت أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ما يقضي براءة ذمتي وطهارة عصمتي، فلا ييئس المظلوم من الانتصار، ولا يعول المقهور إلا على الاصطبار.
اللهم ارض عن أمنا عائشة الصديقة.
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق