الجمعة، 20 يناير 2012

تحفة: المستهامة في حبّ الله تعالى


 
 -كانت أمَةً معاصرة للسَّري السقطي [ت223هـ/876م].
زار السري مرة المستشفى ببغداد فوجد فيه امرأة فاتنة الطرف، باهرة الجمال، أخّاذة الروعة، ولكن حزنا كان يطفو على وجهها وعينيها، فظن أنها حظيَّة خُولِطَتْ في عقلها.
لكن سرعان ما تبين له أنها مُحبة مُستهامة في حب الله تعالى، لاسيما بعد أن أنشدت بلحن حنون وهي مغرورقة العينين:
_معشر الناس ما جُنِنْتُ ولكنْ,,,أنا سكرانة وقلبي صاح!
_أغللتُم يدي ولم آت ذنبا,,,غير جهدي في حبِّه وافتضاحي!
_أنا مفتونة بحبِّ الحبيب,,,لست أبغي عن بابه من براحِ!
_فصلاحي الذي زعمتُم فسادي,,,وفسادي الذي زعمتم صلاحي!
_ما على من أحب مولى الموالي,,,وارتضاهُ لنفسِهِ من جُنَاح!
فما سمعها السري حتى هاجت أشواقه، وملكت عليه أقطار روحه، فجرت دموعه على خدَّيه، ولكنها زادته اضطرابا أنها قالت بلحن عذب، وبصوت فيه ما يشبه الأنين:
_يا عين جودي بدمع خَوْفَ هَجْرِهُمُو,,,فربّ دمع أتى للخير مفتاحا!
_ورُبَّ عين رآها الله باكية,,,بالخوف منه تنالُ الرَّوح والرَّاحا!
_لك عبد جنى ذنبا فأَحْزَنه ,,,فبات يبكي ويذري الدَّمْعَ سفَّاحا!
_مٌستوحش خائف مٌستيقن فطن,,,كأن في قلبه للنور مصباحا!
وقد اشتراها السري من سيدها وأعتقها لتنعم بالحرية، فانطلقت إلى مكة المكرمة، ولزمت الحرم الشريف.
كانت قبيل الفجر تناجي ربها:
_قد تصبَّرت إلى أن,,,عِيل من حُبِّك صبري!
_ليس يخفى عليك أمري ,,,يا مُنَى قلبي وذخري!
_طاق(1) من غِلي وقيدي ,,,وامتهاني منك صدري!
_أنت قد تعتقُ رقِّي ,,,قد تَفُكَّ اليوم أسري!
وكانت في جملة ما قالته قبل وفاتها، تعبر عن موجدة قلبية وشوق وجداني:
_محب الله في الدنيا سقيم ,,,تطاول سقمه فدواه داهٌ!
_فهام بحبه وسما إليه,,, فليس يريد محبوبا سواه!
_كذلك من ادّعى شوقا إليه ,,,يهيم بحبّه حتى يراه!
ولما حج السري اجتمع بها، بعد أن أصحبت كالخيال، فقال لها: "ما الذي أفادك الحق بعد انعزالك عن الخلق؟"
فقالت: أنسي به ووحشتي من غيره.
ثم توجهت إلى البيت [الكعبة المشرفة] وقالت:إلهي كم تخلفني في دار لا أرى فيها أنيسا، قد طال شوقي إليك. فعجّل قدومي عليك.ثم شهقت شهقة وخرّت ميتة.
----
[(1) طاق: قدر عليه].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق